فجر طيب مبارك ويوم سعيد بإذن الله
من كتاب وتستمر الحياة
إنسان
التحف السماء، وافترش الأرض، واتخذ من الطبيعة مأوى له، بعد أن ضاقت نفسه من عالم الماديات، فـسَمَا بها إلى عالمها الحقيقي واتخذ من جانب إحدى الأشجار في الميادين العامة سكنا له، كانت وسادته صخرة ليست أقل صلابة من ملابسه القديمة المتحجرة، المغلفة بها مثلما غلفت حياته أزمات ومصاعب الحياة، أما سجادته كانت حصيرة قديمة وجدها في صندوق القمامة، قد يكون ألقاها الورثة تشاؤما منها بعد أن فارق رفيقها الحياة، رسمت عليها الأرض نقوشا وزخارفَ كما يحلو لها، لم يحمل هم فاتورة الكهرباء آخر كل شهر، أغناه أحد الأعمدة المجاورة عن ذلك، يجلس أسفله على كرسيه الحجري ويسند إليه ظهره، ويجتمع بمحبوبته وأولاده، يكتب حياته.. لم يكن يكتب حياته الواقعية بل يكتب ما كان يحلم به.. "أسرة، عمل، أولاد، آمال، كفاح، سعادة، وحزن ولم يحمل هم فاتورة المياه أيضاً" كان يشرب من مياه ري الحدائق فهي لا تختلف كثيرا عن المياه الموجودة في معظم بيوت العامة، الاختلاف الوحيد.. أنه لا يرى محصل الفاتورة شهريا ويتشاجر معه، أما خزينة الملابس، ثلاجة الطعام، الصيدلية كانت أفرع شجرته يعلق عليها المارة أكياس الملابس، الأطعمة والدواء أصبح له نصيب ٌ فيما تبقى من ملابسهم، طعامهم ودوائهم.. إن لم يوقظه صراخ السيارات كل يوم كانت توقظه أرجل المارة حين تتعرقل به، اتخذ من هذا المكان سكنا بعد أن وجد نفسه بلغ سن "الرسالة" الأربعين من عمره.. ولم يستطع أن يدخر من وظيفته الحكومية بعض الأموال؛ ليدق باب إحدى الفتيات ويتزوج، ويكون أسرة ويستأجر حجرة في بدروم أو فوق سطح أي منزل، رفض بتفكيره أن يعيش أسيراً للوظيفة أو لدقات عقارب الساعة والجري وراء الباصات؛ ليصل إلى العمل متأخراً كالعادة؛ ليجد المدير يجلده بعينيه قبل لسانه من على بعد، وكأنه يريد أن ينفس عما في صدره من همَّ، ونكد، وضيق.
ترك الوظيفة ليتخذ من هذا المكان مستقرا وحياة له، أصبح يساعد المارة في عبور الطريق، إذا رأى طفلاً يعبر الشارع يسرع نحوه ويحمله ويعبر به الشارع.. وهكذا.. إذا رأى عجوزاً أو شخصاً يتعثر في حمل أمتعته، كما يساعد أصحاب المركبات في دفع سياراتهم، أو في إصلاحها إذا لزم الأمر، حين تغضب هي الأخرى من رداءة الزيت وغش الوقود بالماء، أو عرقلة الطرقات وغيرها.. أما خزينته، ثلاجته وصيدليته كانت مفتوحة أمام الفقراء والمحتاجين وغيرهم من أسرى الوظيفة، ومن يريد شيئاً يأتي ويلقي السلام ويأخذ ما يريد ولا يسمع منه غير رد السلام، وإذا وجد ما يريد يسمع منه نصيبك.. هي لك.. دون أن يجرح مشاعره ولو بنظرة وسرعان ما يرفع صوته يكلم محبوبته أو أبناءه كالمجنون؛ ليطمئن صاحب الحاجة أنه قضى حاجته ولا يعلم سره إلا الله، وذلك المجنون، أما الحديقة فقد زرعها زهوراً وشجرة ليمون جادت بثمرٍ يعطي منه المارة.
ذات يوم.. حضر رجل غابت ملامحه في ظلام الليل يتمتم في سخط وغضب، لاعنا حال نفسه، أخذ ينبش في الثلاجة تارة، والخزينة والصيدلية تارة أخرى، وكأنه لا يعرف عما يبحث, سأله:
- ما بك يا رجل
رد عليه -بعد أن ألبس كلماته ثوب السخرية ونظرات الاستهزاء- قائلاً:
- ما شأنك بما أفضفض به مع نفسي ابتعد عني أيها المجنون وكفاني ما أنا فيه
وعاود النبش في الأغراض، ثم صمت، ثم تأمله بنظرة قائلاً:
- "يوضع سره في أضعف خلقه"
أسرع وجلس بين يده قائلاً:
- أنا أعمل ساعياً في مؤسسة عامة ولي مدير سقاني كأس المر والعذاب، يعاني من حرارة في باطن قدمه، ولا تعرف عينه طريق النوم، وحرم النوم علينا، فهل أجد لمسألتي عندك حلاً..؟
- نعم.. ضع قدمه في ماء بارد بخل تفاح أحمر، واجعله يعالج عصب القدم، ويعالج الغدة
قبله الرجل.. واندفع مسرعاً وكان الشفاء للمدير، حضر إليه اليوم التالي بطعامِ، أبى أن يأخذه وأشار إلى أفرع الشجرة ثلاجته قائلا:
- ليكون لصاحب نصيبه
وسأله الرجل:
- هل أجد عندك حل لمشكلة ارتفاع الضغط وانخفاضه دون سبب، وإذا تناولت العلاج.. يحدث هبوط..؟
- يلبس رقبة ويعالج فقرات الرقبة
نهض الرجل مسرعا وكان الشفاء أيضا، في يوم آخر جاء وسأله:
- ما حل انتشار البقع البيضاء في الرقبة والجلد..؟
- عليه بدعكها جيدا بالليمون وملح الطعام وفي الصباح الباكر لبن جذع شجرة الجازورينا مع قطرات الندى المباركة ومرهم لتجديد خلايا الجلد
ويوم آخر سأله:
- ما حل مشكلة الجيوب الأنفية..؟
- عليه الاستنشاق بماء البحر.. وثلاث قطرات من حبة زيت البركة النقي في الأنف لمدة أسبوع..
ظل الساعي كل يوم يأتي له بمسألة ويجد عنده حلها، عرض عليه أموالاً وأن يأخذ له شقة يسكن فيها لكنه رفض.. استطاع إنسان أن يغير خريطة مستقبل الساعي الذي ترك الوظيفة هو الآخر وخريطة مستقبل بناته اللاتي أتممن تعليمهن حتى الجامعة، فلم يكن بطل حياته، بل كان بطل حياة كل من حوله، كان إنساناً فأعطى الكثير.
مرت السنوات وذاع صيت الميدان باسمه وكأنه بطل من أبطال الإنسانية.. وفي إحدى ليالي الشتاء الباردة، كان الغيث ينهمر من السماء كالسيل.. لم يكن كالعادة يستعد له بسبب؛ كبر سنه، وحالته الصحية المتأخرة، جاء إليه شيطان من الإنس يمدح فيه، ويوسوس له أن الله أعطاه من النعم والكرامات ما لم يعطها لغيره وأنه ولي من أولياء الله الصالحين وعرض عليه عمل مقام له بجانب شجرة الليمون رد عليه قائلا:
- يا أخي.. قد أكون في رأي البعض خسرت الدنيا، لكني لا أتاجر بآخرتي أبداً، أتعلم أن الاستحمام بماء الغيث يطرد الشياطين والسحر من الجسم.
حمل روحه وجسده البالي لوسط الميدان والغيث ينهمر من السماء، لعله يطهرهما من أي مس شيطاني أو سحر.. وفجأة سقط على الأرض وسط رعشة شديدة، نزلتْ مُسرعة وحَمَلتْه إلي سكنه وأسند رأسه على صدرها نظر إليها:
- أين كنتِ..؟
قالت في ابتسامة مشرقة:
- كنت أسكن قلبك الكبير يا حبيب العمر، كما كنت تسكن أنت قلبي، لم أتركك يوماً، كنت أراقبك من شرفتي التي أمامك منذ سكنت الميدان، أعد لك الطعام يومياً وأنت تجود به على المارة، أحببت فيك الحياة، أحببت فيك سمو نفسك، زهدك، جودك وحب العطاء، كنت انتظر حتى تكتب قصتك مع محبوبتك وأبنائك ويغلبك النعاس، وآخذ ما كتبته وأسجله عندي وقبل أن تستيقظ أضع لك كتاباتك في مكانها كم تعلمنا منك الإنسانية.. تعلمنا منك الحب، معنى الحياة، أنا محبوبتك.
مدت يدها ومسحت قطرات العرق البارد من جبينه، وسقطت إحدى دمعاتها على خده، نظر إليها مبتسما قائلا:
- لا تحزني.. هذا قدرك وقدري، عشت زاهدا المادة والدنيا، لنسمو بأنفسنا أن نلوثها بلحظات بين ولادة وموت، نحن نغرب من عين المطلع، وما هي إلا لحظات نقضيها ثم نعود إلى عالمنا الحقيقي في اللقاء الأرفع.
نطق الشهادة وفارق الدنيا وهى وسط صرخات ملأت الأرجاء، امتلأت الشوارع بالعيون والآذان، حضر كل إنسان وأقاموا العزاء على إنسان، وبقيت شجرته خزينة، ثلاجة وصيدلية لكل محتاج وأخذت مؤلفاته ونشرتها، وبقيت بصمة على وجه هذه الحياة كان بطل حياته وحياة الكثيرين.. كان إنسانا.. فأعطى الكثير..
وتستمر الحياة .
مازلت أكتب لكم
دمتم بخير أحبتي
سياده العزومي
جميل ... جميل السرد
ردحذفالسهل الممتنع
الجمال في البساطة
العب عالميا
ردحذفلسياده العزومي سقراطة الشرق
عضو اتحاد الكتاب
من رجل فاشل.....
إلى امرأة فاشلة .....
قال لي :
ذات يوم ولا أذكر من أين كنت عائدا وحينها لا أعرف إلى أين كنت ذاهبا كالعادة، كنت أقود سيارتي العرجاء على طريق أعوج محطم مثل حياتنا تنقر أنامل فكري المغلولة على المقود بعد جهد مهدر من الشروق إلى الغروب أحمل على كاهلي أثواب قماش متعدد الألوان كقلوب البشر وأجول في الأزقة بين البيوت القديمة أحيك قصيدتي من غزل النساء الباليات بقافية فكر رجل فاشل عاش على امتداد العمر في خواء وظيفته قابض على ساعته يراقب دوران الأرض بمحور مائل كحالنا حول الشمس ويوثق مع تلاميذ الفلك السنة الكبيسة والبسيطة وأفسر من كتاب ابن سيرين الأحلام المعدومة في ميادين الثوار، لهلوسات غفلت الليالي فوق الكائنات الحية وأتنبأ مع منجم الأبراج حظ مَنْ لا حظ له، كل عدت أمتار أرتع العرجاء وأمسح زجاجها بخرقة طفولتي المرقعة بلون أماكن اللاجئين، فجأة كشرت عن أنيابها السماء وكادت تسقط علينا من ثقل سحاب ذنوبنا الذي دخن وجهها، على جانب الطريق تحت شجرة عارية في بلاد النهر، لمحت طفلة ذات الخامسة ترتعد من برودة البشرية قبل برد الأجواء، بعد مسافة استطعت أن أقيد العرجاء فوق تل في الطريق، ومن القماش أخذت أثقله، وهرولت أدراجا لا أبالِ من راجمات السماء ضممت الطفلة بدف إنسانيتي وسترت قسوتنا المنحوتة على جسدها، توحدت اللغة أشرت عليها أن تبقي مكانها حتى أعود، وهرولت أدراجا إلى العرجاء وأشتد قذف الطبيعة، جلبت بعض كسرات الخبز الجافة وسعيت أهرول إلى الصفاء فلم أجدها جلست القرفصاء تحت العارية وبكل الحصوات أرجم حتى من انسانيتي....
شعرت أنني لابد أن أرحل إلى عالم آخر إلى فضاء واسع يستطيع أن يسع مشاعري أو إلى بحر شاسع تذوب فيه همومي أو إلى قمر يربت عليَّ وسط ظلمة وظلام البشر شعرت أن كل شيء يرأف بحالي إلا بني جنسي.
وكانت قصيدتي عزاء للإنسانية في وفاة الإنسان، بحثت في جوجل عن صورة لفتاة تشبه البنت وحالها وألمها ووضعتها على المنشور وبدأت التعليقات والاعجابات لأول مرة أشعر أني قلت شيء مس قلوب العامة عادة أجد التعليقات على منشورات النساء بالألاف حتى لو قالت يا فجل أخضر من الجرجير ووجدت سيدة تعلق وتطلب رقم هاتفي اعطيتها إياه
بعد أن تعرفنا على بعض تغير نبرة الحوار إلى شجار قائلة:
- من أين حصلت على صورة الفتاة؟
- هذه ابنتي المخطوفة منذ ثلاث سنوات
في نفسي لعنت نفسي ولعنت قصيدتي النحس ولو كان الفيس بوك رجلا لقتلته ولو كان كتابا لمزقته، وقع قلبي في قدمي
أصبح عليَّ اثبات إني شاعر ولست خاطف، لم تنتهي المكالمة إلا وبدأ إنسانية العالم تستيقظ على قصيدة الشاعر الخاطف ......
مازلت أكتب لكم
وسأظل بإذن الله اكتب لكم
لنصع بصمتنا معا على وجه هذه الحياة
دمتم بخير أحبتي
سياده سقراطة