تصدق قبل ان. يرحل رمضان
الصدقة طهارة تذهب الأنجاس , وبركة تنمي الإحساس ..فهي تزكية وتطهير كما هي نماء وتكثير...وهي برهان الإيمان الأول , وشجرة الإحسان الخالد , تتفتق منها ثمار المحبة كما تتفتق الزهور من أكمامها , فتذوى حظوظ النفس , وتربو بروائحها الزكية براعم الخير, كما تترعرع أخلاق المروءة , وينمو بماء الصدقة كل خُلقٍ حسن كما تنمو الزهور بماء الجداول .
كيف لا وهي تجسيد عملي , وبرهان حقيقي , لمعانٍ إيمانية , ومبادئ قرآنية , تشي بما يحمل صاحبها من قيم!!.وهي تحقيق للتقوى والمراقبة في أبهى صورهما.
فيا ألله ما أعظم الصدقة...فهي تقيل العثرة , وتجبر الكسرة , وتعين على نوائب الدهر, بها تفرَّج الهموم وتدفع النوازل والغموم , و يبرى بها العليل ويبارك بالقيل.
بها العقول تهدى والنفوس تشفى والحوائج تقضى , والنعيم المقيم في جنة عرضها السموات والأرض يرجى ..فلا غنى لمأمل بالخيرات عنها , ولا لمحترس من السيئات منها , فهي الحافظ لمن يخشى النوائب , والمبلغ لمن يطلب المناقب, بها تحقق الآمال وتخفف الأحمال , سيقانها فارعة , وثمارها يانعة , تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
فهي مرتع المجهدين وبيدر الطامعين , وهي عنوان المجدين ومستودع الاتقياء , تسمو بها الأروح وتهمي بها الأفراح , وتأسىَ بها الجراح . فكم لهفان أغاثت وهموم جلت , وكم بدلت فقر أناس غنى , وبؤسهم هنا.. وكم أحيت من أناس تشققت جلودهم , وأنحل الجوع أبدانهم , طوتهم الفاقة , وهم أعزاء حتى جاءت الصدقة بسفينة الندى تحملها الأكف البيضاء , وتحفها الملائكة , جاءت لتحملهم من أزقة الفقر, وأخاديد النسيان , إلى بستان الكرماء , وحدائق المنفقين العظماء... فلله در من أنفق , لقد أعادت إليهم أنفاسهم وبسماتهم التي خفيت , و أشواقهم التي بليت , فدبت الحياة الكريمة في أرجائهم كما يدب الفجر إذا تنفس , أيُّ فضل سيناله الباذلون , ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا.
من سلك سبل الصدقة وصل إلى غايته , ومن أعرض تخبطته الشياطين وهوت به الرياح في مكان سحيق , ولا يلوم إلا نفسه , عشاقها الأسخياء وأعداؤها الأشقياء, لا يسلكها إلا مالك لزمام أمره , مُجد في طلب نجاته , ولا يزيغ عنها إلا هالك ,أغرته الدنيا فأتبعها هواه.
الصدقة كالبيضاء لا تخفى ثمارها على مبصر, ولا يجهلها إلا من عمي قلبه وزاغ بصره, أكمامها حانية وقطوفها دانية وظلها وارف لكل طالب إليها زلفا , ملبيا لنداء من منحه من فضله ثم استقرضه سلفا بقوله "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعف له وله أجر كريم"
إن الصدقة ثمرة حلوة , تنبت في أرض خصبة , تسقى بماء واحد.. يستودعها الله قلوب من يشاء من عباده , فتجود بها أكفهم, فيربيها لهم كما يُربىَّ المهر في مراعى الإبل , فيعيشون حدائق ذات بهجة , سماءٌ كالسماء ونجومٌ كالنجوم لا يدركهم الخوف , ولا يصيبهم الوهن , يملكون ولا يُملكون , يجرون الدنيا بقرنيها كما يجر الرجل دابته بخطامها وهو عنها معرض , لقد أقبلت حين أدبروا , ودانتْ حين زهدوا , وذلتْ حين عزُّوا , جعلوها في أيدهم فلم تبلغ قلوبهم , فانقادت كما ينقاد البعير, وكلما أرخصوها بذلاً زادت إقبالا فازدادوا اعراضا , حتي وفدوا عليه فأكرم وفادتهم , وقد أدهشهم ما وجدوا مما أعدَّ لهم من النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول!!...فيا للعجب من طالب تفر منه كما يفر الصحيح من المجذوم , وزاهد تلاحقه كما يلاحق الظبي أرنب الفلاة ..."ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين".
الصدقة برهان لحقائق الإيمان
كما أن الصدقة تجسيد لحقيقة الإيمان باليوم الآخر, وذلك بالخوف من عقابه , ورجاء ثوابه , وهي كذلك تحقيق للشعور بهيمنة الله وفاعليته ونفي حول وقوة سواه...فهي دليل على الاستقامة ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام ( والصدقة برهان)
وقد جاءت مشروعية الصدقة موافقة للفطرة , فالإيمان بالخَلَفْ والعوض منزلة تبلغ بصاحبها أعلى المراتب ؛ لأن النفس مفطورة على حب الربح العاجل والحرص عليه , فإن تحول الإنفاق ربحا في شعور المسلم , فقد رسخ يقينه وكمل إيمانه ؛ تناغما مع فطرته التي تحب المزيد ؛ فيصبح الإنفاق محبوبا يُفرحُ صاحبه ويسره...وفي الحديث "من سَرَّته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن."
فالمتصدق يحق له الفرح , فكل من أيقن بأن ماله يزيد حين ينفق ويقل حين يمسك لا شك أنه سيحرص على الصدقة ويبذلها مكثرا بحب .
ولذلك جاءت الآيات والأحاديث تعالج دخائل النفس البشرية بحيث تتصدق راغبة راضية وتعطي مما تحب لتتبوأ مقاما محمودا مع الكرام البررة ... قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم، ومما أخرجنا لكم من الأرض، ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون.." البقرة ٢٦٧.
لذلك فالصدقة نماء حقيقي ليس في المال فحسب بل والاحساس ببركة العمل والعمر . فيا لفرحة المتصدق بهذا النماء.
بقلم / هائل الصرمي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق